الثلاثاء، 11 يوليو 2023

الدولة كائن من جنس نفسه

 ليس من التشاؤم في شيء النظر إلى الدولة ككل بعين الريبة. وهذه الطريقة في النظر إليها لا تعني بالضرورة مقاطعتها أو مقاتلتها، بل على الأقل معرفة العالم الذي نعيش فيه. إنسان هذا العصر قد يشتبه عليه الأمر فيرى في الدولة سلطة حميدة تمنح الناس حقوقهم، توفر الرواتب، تقيم نظام رعاية صحية...إلخ. وهذا صحيح، وقد قالها جان جاك روسو، إنّ الإنسان يتخلى عن بعض حريته من أجل العقد الاجتماعي وبعض الامتيازات التي قد ينالها من خلال هذا العقد.

ولكن ينبغي التذكير بأنّ الحقوق والرواتب الجيدة والرعاية الصحية والتعليم المجاني أو شبه المجاني، كلها أمور حديثة جداً. ليس من المبالغة أن نقول إنّها فترة وجيزة تلك التي رأى فيها العالم شيئاً كهذا. بمعنى آخر، هذه ليست أساساً من أساسات ومبرر من مبررات وجود الدولة. المبرر الوحيد كان هو توفير الأمن والأمان للرعايا. في الحقيقة لا يوجد شيء يضمن بقاء كثير من هذه "الامتيازات". إذا نظرنا بعين التاريخ الطويل، زوال هذه الامتيازات أمر في حكم المحتوم. الدولة تقوم على القوة، وحين يكون في مصلحة القوة أن تتخلى عن ترتيب ما فستتخلى عنه من دون أن تفكّر مرتين.
الدولة هي كائن من جنس نفسه. دائماً كنت أشعر بهذا الأمر من دون القدرة على التعبير عنه بهذه العبارة. وهذا يعني أنه لا يجب أن نستغرب حين نرى أنّ الدول تستطيع أن تتحادث وتتفاوض فيما بينها بشكل فعال أكثر بألف مرة من قدرة الدولة على التفاوض مع شعبها نفسه. الشعب يتكلم لغة تختلف عن لغة الدولة، حتى لو كان شعباً متمدناً.
ولكن الشكل الأكثر فضائحية لهذه الحقيقة يظهر بصورة خاصة في الدول غير الديمقراطية. ليس عجيباً أن يجد المواطن في سوريا مثلاً أن تفاهم قيادته مع القيادة التركية أسهل وأسرع من تفاهمها معه. مهما كان الخلاف مريعاً تبقى الدولتان منتميتين إلى عالم واحد ولغة واحدة، هو عالم القوة الساحقة والقوة العسكرية ومصالح الأعمال. الحقيقة أن ما يجمع الدولة السورية مع الدولة التركية (بغض النظر عن القيادات) أكثر بكثير من حيث الفلسفة والممارسة الفعالة مما يجمع أي من هاتين الدولتين مع شعبها.
لا ينبغي حتى للمواطن السويدي أن يستغرب أنّ رأيه كان مطلوباً في الاستفتاء من أجل استعمال اليورو (ورفض ذلك) ولكن رأيه لم يكن مطلوباً في تخلي بلاده عن 200 عام كاملة من الحياد الرسمي ودخولها إلى أعتى منظومة عسكرية عرفها التاريخ البشري. كما قلنا من الأسهل أن تتفاهم دولة مع دولة أجنبية من أن تصغي إلى الطيف الواسع الموجود ضمن الجماعات البشرية لرعيتها.
هذا يفسّر أيضاً الصدمة المتكررة التي يعانيها المتديّنون المخلصون أمام سلوك دولتهم التي ترفع لواء الدين. الدولة لا يكن أن تكون إلّا الدولة، كما أنّ البنك لا يمكن أن يكون إلا البنك. عدا ذلك خرافة وأقاصيص عجائز. الحاكم المخلص الذي يصل لحكم الدولة ويريد أن يفعل غير ذلك مصيره القتل أو النفي أو الاستقالة.
بالمختصر، لا يمكن الاحتجاج بأنّ الدولة توفر كذا وكذا. الحقيقة أن معظم ما توفره الدولة الجيدة لرعاياها اليوم لا يزيد عمره عن قرن من الزمن. لا يوجد ما يضمن أنّ هذا الأمر سيستمر، بل لدينا الكثير من المؤشّرات أنّ كثيراً من هذه الأمور لن تستمرّ، أولاً لأنّ الحياة متغيرة وهذه سنّتها، وثانياً والأهم لأن الامتيازات الممنوحة لجمهور الرعية ليس جزءاً جوهرياً وأصيلاً من مفهوم الدولة البرجوازية، ناهيك عن الدولة العسكرية أو دولة العائلة والقائد الرمز.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق