بقلم فادي أبو ديب
"الشيء الوحيد الذي تؤمِّنه المجموعة هو إزالة
الضمير"
سورين كييركيغارد
الفرد وديكتاتورية الجماعة:
ربما يكون مصطلح "الديمقراطية" واحداً من أكثر المصطلحات شيوعاً في أيامنا هذه، وخصوصاً في المناطق التي تتوق شعوبها للتحرُّر من حكوماتها الاستبدادية التي عاثت فساداً وإفساداً طوال عقودٍ طويلةٍ مريرة. وفي الواقع فقد أصبحت هذه الكلمة تدلّ على غير ما تعنيه في الأصل، او على الأقل تشمل معانٍ أخرى لا تتسع لها من حيث المفهوم الأصلي، مثل "حرية التعبير" و"حرية المعتَقَد".
إلا أنه
إذا تأملنا كل هذه المفاهيم وفق ما تعنيه أصلاً سنجد أن الأمور السابقة قد لا
ترتبط ببعضها البعض بالضرورة، فالديمقراطية والتي تعني حرفياً، ووفق أبسط أشكالها،
"حُكم الشعب لنفسه" لا تضمن مباشرةً حرية التعبير ولا حرية المعتقد، هذا
إذا وضعنا في اعتبارنا أن هذين الجانبين من جوانب الحرية لا يعنيان أيّ شيء فعلياً
على أرض الواقع بدون حرية السلوك البشري، ولهذا نجد أن كل دساتير الدول تقريباً
تشتمل عليهما، رغم أن معظم الدول لا تمارسهما، فاللعب على الألفاظ والمصطلحات
المطاطة امرٌ في غاية السّهولة لأنها لا تبيِّن أية تفاصيل عن ظواهرها وأحداثها
وكيفية ممارستها.
ما
نواجهه اليوم هو غياب محورية الإنسان بشكل شبه كامل في كلّ أنحاء العالم، وأنا أركِّز
هنا على معنى "الإنسان"، أي ما يسمّى باللاتينية Homo Sapiens والذي يعني في
الأصل "الرجل العارف" أو "الرجل الحكيم" (لاحظوا الذكورية!).
فما يتميّز به الإنسان الحقيقي الواعي، هو تلك الصورة الإلهية، وتلك القدرة
المذهلة على ممارسة الإبداع والخلق، والإدراك بأنه موجود، وبأن "وجوده"
كفرد يجب أن يعني الكثير. فكل فرد يريد أن "يعرف" من هو ولماذا هو
موجود، وما هو موقفه من الجماعة التي يريد أن يكون جزءاً منها، والتي يجب أن تحترم
خياراته وكيانه الفردي ضمنها مقدِّماً لها قدرته بطواعيةٍ خالصةٍ محبّة لا تخضع
لمفهوم الواجب القسري الذي يفرِّغ كل فِعل من معناه ويحوِّله إلى عملية ميكانيكية
فارغة.
هذا
المفهوم للإنسان غير موجود في عصرنا الحاضر، لماذا؟ لأنه ببساطة عصر الرقميات
والتكتّلات القطعانية والديمقراطية! فالديمقراطية تقوم على حُكم الأغلبية، فتعتبر
أن الأغلبية (حتى لو كانت النصف زائداً واحد) لها كامل الحقّ في التشريع وسنّ
القوانين في إطارٍ جغرافيٍّ ومجتمعيٍّ ومؤسساتي معيّن يُسمّى "الدولة"،
وبالاستناد إلى مجموعة مبادئ ساسية تسنّها الأغلبية تُسمّى "الدستور"
الذي عادةً كما يصبح أكثر قداسةً من الإنسان الذي وضعه والذي وُضِع لأجله. أساس
الديمقراطية يفترض نظرياً أو عملياً أن الأغلبية هي التي تمتلك الحقيقة، أو الجزء
الأكبر منها، ويحقّ لها أن تقرِّر أو تفرض قراراتها على الجزء الباقي من المجتمع. ولكن
هل هذه حقيقة واقعة؟
لن أعطي
إجابةً جازمة، ولكن يكفي أن نتذكّر بان كثيرين من كبار المفكِّرين والفلاسفة كانوا
أعداء لظاهرة "الجماهيرية"، إن صحت التسمية. فالمفكِّر الفرنكوسويسري
جان جاك روسو يعتبر أنه من غير الممكن أن يكون المرء مواطناً وإنساناً في الوقت
عينه "فإما الطبيعة وإما المقولات
الاجتماعية" (كتاب إميل، ص 28، ترجمة د.نظمي لوقا) حيث أن المقولات
الاجتماعية هي صناعة الأغلبية التي تضع الأعراف والقوانين الشفاهية والمكتوبة. وسورين كيركيغارد أبدى عداءه الشديد للمفاهيم التي تعتنقها
الحشود، مساوياً بين الجماهير واللاحقيقة، ومعتبِراً أن الانصياع للجماهير
وتملّقها هو أسوأ من امتهان البغاء، اما المفكِّر وكاتب المقالات الروسي آحاد
هاعام فقد اعتبر أنّ "كل تجمّعٍ من البشر يملك نفساً ذات نوعيّة أقل من تلك
التي يمتلكها أفراده" وأنّ حياة الإنسان العادي أو المتوسِّط " خالية
إلا من تقليده للجمهور الذي يشكِّل هو جزءاً منه". فالديمقراطية لا تقدِّم
سوى وجهة نظر الأغلبية التي ليست بالضرورة أن تكون صحيحة، وأنا أعتقد بأن الأغلبية
غالباً ما تجانب الصواب (الذي أؤمن بوجوده)، لأن الأغلبية دائماً تبحث عن الخيارات
الأسهل والأكثر ربحاً، وهي حتماً لا تبحث عن الحقيقة والإنسانية، لأنها لا تعرفهما
ولا تدرك وجودهما. فمن الأسهل للأغلبية ان تدعم نظاماً يؤمِّن لها المدارس
المجانية أكثر من نظامٍ يضع كل فرد أو عائلة أمام مسؤوليتهما في البحث عن المعرفة
التي يتمنّاها، ومن الأسهل لها أن تدعم نظاماً يستثمر الأراضي، ويوظِّف أولادها
فيها، قاسماً لكل منهم جزءاً ضئيلاً او متوسطاً من الأرباح، من أن يسعى كل فرد أو
عائلة إلى امتلاك الأرض والعمل وإنتاج ما يريدون. فالشخصية الاعتبارية التي تمثِّل
الأغلبية لا تهتم لمفاهيم مثل حقيقة الوجود، هدف الإنسان الأساسي، إنسانية الفرد،
جمالية التشارك بين كافة الأفراد، أولوية تحقيق الذات الداخلية، مركزية الحب بين
أفراد الظاهرة الإنسانية وما إلى ذلك، بل تجد أنه من الأجدى أن تعيش من أجل الكسب
السريع والمال والأضواء الملوَّنة والحياة الترفيهية المريحة الخالية من المعنى.
وعلى كلّ حال هذا هو حال البشر منذ وُجِدوا، والديمقراطية هي إحدى أجدى الوسائل في
نشر السخافة، وبطريقة قد تكون أكثر فعاليةً من الأوتوقراطيات الاستبدادية، وخصوصاً
إن صادف وكان الديكتاتور مفكِّراً أو فيلسوفاً أو مهووساً بنظرية يوتوبية قد يسفك
من أجلها الكثير من الدماء والقليل من تفاهات ثقافة السوق!
قد يهتمّ كلّ فردٍ- أو مجموعة صغيرة من الأفراد- بكل تلك
المعاني الأصيلة والإنسانية المذكورة آنفاً، ولكن بمجرَّد اجتماع الأفراد بطريقة
القانون القطيعي سوف يفقد كل منهم مبادئه أو يساوم عليها، أو يُحرم منها قسراً
ويتعذّب لأجلها، لأن كلّ ما حوله يدعوه لتركها في سبيل مصلحة تفاهة السوق الجمعيّ.
أما حرية المعتقد وحرية التعبير فغير مرتبطين دائماً
بالديمقراطية، ولنأخذ بعض الأمثلة الواقعية: يمكننا ان نعتبر إيران إحدى
الجمهوريات التي تمارس فِعلاً ديمقراطياً يتعلّق بانتخاب رئيس الجمهورية، ورغم أن
منصب الرئيس محاصرٌ فعلياً بصلاحيات المرشد الأعلى المطلقة، إلا أنه يمكننا القول
بأن الرئيس الموجود (في حال لم يتم تزوير كما قد يحدث في أي بلد) هو رئيسٌ منتَخَب
ديمقراطياً من قبل أغلبية الشعب. ولكن هل يمكننا أن نقول بأن حرية التعبير
والمعتقد حقّان متوفِّران في ذلك البلد؟ بالطبع لا! هل هناك حريّة تعبير مطلقة في
روسيا؟ هل يمكن لصحفي تركي أن يكتب عن مذابح الأرمن أو لمسيحي أن يبشِّر علناً
بإيمانه في تلك الجمهورية الديمقراطية حقاً؟ هل يمكننا أن نتوقع أن يتمكّن أقباط
مصر من ممارسة حريّتهم في العبادة وبناء الكنائس في ظلّ حكومةٍ قد يسيطر عليها
الأخوان المسلمون والتيّار السلفي؟ هل يمكن للشيوعيين في الولايات المتحدة أن
يصرِّحوا علناً برغبتهم في نشر الفكر الاشتراكي وإقناع الشباب الصاعد بنبذ
الرأسمالية الليبرالية؟ هل تسمح فرنسا، وهي دولة ديمقراطية لا يُشَق لها غبار، لمن
يريد أن يعتبر أن الثورة الفرنسية نموذجٌ سيئ من عدة نواحي، ويقترح تغيير مفاهيم
الدولة إلى فيديراليات للفرنسيين والباسكيين والبروتانيين المقموعين منذ قرون؟
وأسئلة مشابهة يمكن أن نسألها بخصوص إسبانيا وبلجيكا اللتين تتوقف فيهما حرية
المعتقد عند الكلام فقط عندما يتعلّق الأمر بالانفصال الكلي للباسكيين
والكاتالونيين والفلامنكيين!
نستطيع
أن نسأل مئات الأسئلة التي تلقي الشك حول ارتباط الديمقراطية بحرية التعبير
والمعتقد، وبالتحديد عندما يتحوّل هذان الأخيران (أي المعتقد والتعبير عن الرأي)
إلى سلوكٍ عملي قد يفضي إلى تغييرات سياسية واقتصادية واجتماعيةٍ جدّية ومؤثِّرة
بشكلٍ جذري، فهذه الظواهر المذكورة هي المهم فعلياً، وما الديمقراطية سوى وسيلة
لتحقيقها. ليست الديمقراطية استعراض عضلات يفوز فيه الأكثر عدداً أو الأكثر قدرةً على
صناعة البروباغندا، فإن لم تؤدِّ الديمقراطية إلى قدرة كل مجموعة تحمل فكراً خاصاً
على عيش حياتها بالطريقة التي ترتئيها مناسبةً بدون أن تضرّ بغيرها، فلا ضرورة
لهذه الديمقراطية من الأصل، لأنها ستكون حينئدٍ من دون معنى، ومجرَّد نوعٍ آخر من
الديكتاتورية التي تمارسها الأغلبية في هذه المرّة!
كلّ ما
سبق لا يعني بسذاجة أن خطأ الأغلبية يضع الصواب في جانب القسم الآخر من اللعبة
الديمقراطية، لأن خطأ الأغلبية ليس في ماهية مبادئها بالضرورة، بل في أسلوب وضع
هذه المفاهيم كحقائق مطلقة. لنأخذ مثالاً واقعياً وصريحاً من لبنان: فحزب الله
ينتهج منذ سنوات سياسة المقاومة الحربية ضد إسرائيل ومعه قسم من اللبنانيين قد
يشكِّل أغلبية في وقتنا الحاضر. موقف المقاومة الحربية بحد ذاته قد يكون صحيحاً من
حيث المبدأ النظري، ولكن طريقة فرضه على القسم الآخر خاطئ لا محالة، فمن حقّ من لا
يريد الحرب ألا تُفرَض عليه الحرب، فليس لأحد أن يقرِّر الحرب عن أحدٍ آخر، وخاصة
أن جزءاً مهماً من المجتمعين الإسلامي والمسيحي هناك يجدان أن بنيتيهما العقائدية
والاجتماعية والاقتصادية غير مركَّبة بحيث تخدم حالة حرب واستنفار دائمة. هذا طبعاً
لا يعني أن القسم غير الراغب بالحرب لديه الحقيقة المطلقة. الموضوع موضوع شرخ
ثقافي وقِيَمي عميق لا يمكن إصلاحه لأنه ينطلق من خلفيتين أيديولوجيتين غير
قابلتين للالتقاء. الحل قد يكون هنا في حُكم كل مجموعةٍ لذاتها، وهنا يمكن
الاختيار بين الفيديرالية والكونفيديرالية بحسب عُمق الشَّرخ الحاصل الذي لم يمكن
إصلاحه بالحوار غير الممكن أصلاً حول العديد من الأمور التي تُعتَبَر خطوطاً حمراء
من قِبَل هذا الطرف أو ذاك.
الحلول المحرَّمة:
الفيديرالية
والكونفيديرالية هما حلّان فيهما شيء من الاحترام للإثنيات والمجموعات المختلفة التي
تختار طريقة حياتها بصورة مختلفة كلياً، وهي الحل الوحيد للمناطق المنوَّعة،
بعيداً عن الأوهام غير الواقعية للاتفاق والتوحُّد. تاريخياً لم تعرف المناطق
شديدة التنوُّع إثنياً وعرقياً ودينياً أيّ نوعٍ من السلام الدائم إلا بعض قضاء
أحد الأطراف على أحدها الآخر. هذا تاريخٌ مؤسف ولكنه حقيقيّ، فالسلام والتعايش
كانت حالات مؤقَّتة لم تدم طويلاً، لا في آسيا الوسطى ولا في آسيا الصغرى ولا في
شمال أفريقيا ولا في القوقاز ولا في البلقان ولا في سوريا الطبيعية ولا في فارس
ولا في العراق ولا في شبه جزيرة العرب. هناك عجزٌ إنساني حقيقي ومؤسف لحل هذه
القضايا بشكل جماعي ودائم، لأن التعايش يتطلّب مستوياً عالياً من الوعي، انطلاقاً
من الفرد وصولاً للجماعة، وهذا غير ممكن واقعياً على المستوى الجماعي الشّامل إلا
وفق سلطة قانون قسريّ.
النموذجان السابقان كفيلان كمرحلةٍ أولى بنبذ ما
يمكن تسميته بالإمبريالية الداخلية التي يمارسها المركز على الأطراف، فكلّ مجموعةٍ
أدرى بنفسها، وليس لأحدٍ الحقّ في مصادرة طريقة حياتها الذي تختاره لنفسها. إنّ
مبدأ "الإمبريالية" موجودٌ في داخل كلّ دولةٍ مركزية يتحكّم فيها مركزٌ
معيّن بغيره من المجموعات البشرية المنتشرة عبر البقاع التي احتلّتها سلطات هذا
المركز في مرحلةٍ تاريخيةٍ ما منذ زمنٍ قريبٍ أو بعيد. وفي الحقيقة لا يمكن لدولة
أن تتهم غيرها بممارسة السياسة الإمبريالية (الإمبراطورية)، أولاً لأن كل دولةٍ
تمارس الشيء ذاته مع جيرانها متى استطاعت إلى ذلك سبيلاً، وثانياً وهو الأهم، لأنّ
كل دولةٍ شديدة المركزية تمارس هذه السياسة بحقّ ملايين البشر الذين يصرفون حياتهم كعبيدٍ للقوانين
التي تسنّها الأغلبية التي تتمركز في المركز، والتي تتحوّل حتى في أشد الدول
ديمقراطيةٍ إلى نخبة حاكمة بعيدة عن الفرد والجماعة. فبذرة الإمبريالية إذن موجودة
في مفهوم الدولة المركزية، وفي مفهوم الكتل السياسية الموحَّدة التي يتحكّم فيها
طرفٌ بالأطراف الأخرى ديمقراطياً أو أوتوقراطياً. فإذا شرّعنا للمنتَخب ديمقراطياً
حقّ سنّ القوانين لأنه صاحب العدد الأكبر من الأتباع، يمكننا بنفس الطريقة تشريع
تحكّم دولة ما بدولٍ أخرى، على اعتبار أن هذه الدولة المسيطرة ذات ثقافةٍ أو أخلاق
أو حضارة أكثر رقيّاً واستحقاقاً للانتشار!
سيسأل
سائلٌ- وهو محقٌّ في هذا- ألا يمكن أن تتحول الفيديراليات أو الكونفيديراليات إلى
ديمقراطيات أصغر تمارس فيها الأغلبيات نوعاً لآخر من الديكتاتورية؟ والجواب هو:
نعم بكل تأكيد! فالفيديراليات لا ينبغي أن تتوقف عند حدود المناطق الكبرى بل أن
تكون تنزل إلى مستويات أصغر حتى البلديات مثلاً، بحيث يصبح لدينا في النهاية
مجموعات صغرى من التجمّعات التعاونية الصغيرة العاملة، والمتعاونة بدورها مع
التجمّعات المحيطة، عبر أسلوب يحقِّق للفرد دوراً أكبر شيئاً فشيئاً. ومن البديهي
أن العدالة الاجتماعية يمكن تطبيقها بسهولة أكبر كلما صغرت الرقعة الجغرافية
والديموغرافية (السكّانية). وعلى المفكِّر العاقل هنا أن يختار بين الإنسان
والأحلام الوطنية والقومية، أي بين الإنسان والأرض، بين الرّوح الحيّة والوثن
الجامد!
بعض
القومبين والوطنيين سيجدون في هذا دعوةً لمايسمّونه هم "شرذمة"
و"تفتيت للأوطان" وما إلى ذلك. ولكن لا يجب أن ننسى أن عبارات مثل
"الأوطان" و"الوحدة الوطنية" وغيرها هي كلها عبارة عن مفاهيم
نسبية تقوم على افتراضات تاريخية وفِكرية نظرية موجودة عند أصحابها فقط، وهي قد لا
تعني شيئاً على أرض الواقع. فالمقدَّس الوحيد هو الإنسان، وما يحقِّق أكبر قدرٍ
ممكن من مصلحة الإنسان الفرد ومن ثم الجماعة هو ما يجب أخذه بعين الاعتبار فعلياً،
وليست المفاهيم والعصبيّات والفرضيّات والنظريّات القائمة في معظمها على أسسٍ من
الكبرياء القومي العنصري في كثيرٍ من نواحيه، وعقد النقص المتعلِّقة بالتسميّات
والهويّات، والتي في معظمها نشأت لظروف تاريخية مؤقتة زالت بعض أسبابها أو ربما
استمرت، أو لأسباب تتعلّق بالفخر القومي- العشائري الموسَّع أو القومي- الدينيّ، والمُنشأ
خصّيصاً نكايةً في القوميات الأخرى (العشائر الكبرى الأخرى)، والتي ترمي من
حساباتها أي قيمةٍ فعلية لكل إنسان الفرد "العارف".
القوميات
أساطير أساسها قبيلة معيَّنة أو مجموعات من القبائل القديمة التي سكنت مكاناً
واحداً في ظرف تاريخيّ ما، والأوطان هي مكان استيطان هذه الأقوام أو تلك، والتاريخ
يعلِّمنا أن القوميات تصل إلى أوجها في مراحل معيَّنة ثم تقترب من الزوال في مراحل
أخرى. وهكذا هي الأوطان أيضاً، فاليوم قد تكون هذه الأرض وطناً لهذا الشعب وغداً
قد تصبح لذاك. لا أحاول أن أقول أنه ليس لأحد أيّ حقٍّ في أي أرض، ولكن ما أحاول
قوله هو أن العصبيّة الوطنية والقومية شعورٌ لا داعي حقيقي له. أليس المغول اليوم
منعزلون شمال الصين بعد أن كان وطنهم (الذي احتلّوه لمئات السنين) يمتدّ حتى ساحل المتوسّط؟
أليس اليونانيون اليوم يسكنون اليوم في دولتهم الصغيرة بعد أن كانت آسية الصغرى
وأجزاء من سوريا ومصر مواطن لهم ولثقافتهم ولغتهم لقرونٍ طويلة؟ وهل المغرب العربي
وطنٌ للعرب أم للأمازيغ في يومنا الحاضر؟ ونفس
السؤال يمكن ان نوجهه بشأن أجزاء واسعة من العراق وسوريا وتركيا وإيران
سكنها ويسكنها السريان والأرمن والأكراد لآلاف السنين. وإذا كانت هذه البلاد وطنٌ
لكل هؤلاء معاً، فما الداعي لربط الأرض بقوميات معيَّنة إذن؟ أين الوطن الحقيقي
لقبائل القوط والفاندال والأنكلوساكسون؟ هل يمكن ان نقول اليوم للساكسوني الذي
يسكن إنكلترا أو إيرلندا اليوم "عد إلى وطنك الأصلي؟". الوطن هو المكان
الذي نستوطن فيه. تبقى طبعاً مشاعر الحنين لما كان يوماً وطننا أو وطن أجدادنا،
ولكنه ليس حنيناً للأرض، إنه حنينٌ لخيالاتنا عن ما يمكن أن يكون لو كنّا في تلك
البقعة من العالم، إنها رغبةٌ في عالمٍ ننشئه في خيالاتنا، كاملاً جميلاً هرباً من
مآسينا الحالية. الوطن يمكن أن يكون أيضاً اشتياقاً لذاتنا وذكرياتنا في مكانٍ ما
أحببناه مع مجموعةٍ معيّنة أحببناها في مرحلةٍ معيّنة من عمرنا. الحنين إلى الوطن
هو حنينٌ إلى ذاتنا، للحظاتٌ نقّتها ذاكرتنا من كل الشوائب والهموم والأحزان لتبقى
منها صوراً مضيئة فقط مع "موسيقا خافتة" تدندنها قلوبنا مع "شريطنا
العقليّ المصوَّر". لا أدّعي أن هذه المشاعر غير حقيقية وغير مبرَّرة، ولكنها
فقط هي الحقيقية، أما الأوطان الجغرافية فهي محض أوهام تشغل المجموعات البشرية عن
مصلحة أفرادها والرقيّ بإنسانيتها، فتستغلّ أفرادها وتقتل إنسانيتهم لمصلحة قطعٍ
من الأرض المشبَعة بدماء هؤلاء الأفراد!
لنعود
قليلاً للديمقراطية ونقرّ بأنها مجرَّد وسيلة وليست هدفاً في حدّ ذاته كما يظنّ
راكبو الموجة العصرية الحديثة التي تروِّج لها عواصم المال والقهر والتجويع
المتعمَّد. فالديمقراطية لا تأتي بحرية الإنسان، لأن هذه الحرية نتاج الفكر الصادق
"المتأنسن حتى الصورة الأصيلة للألوهة"، وهي لا تُمنَح ولا تُعلَّم بل
تبدأ من داخل الفرد فقط. وكل الحديث عن ديمقراطيات مأمولٍ بها هو كلامٍ دعائيّ
فارغ لأن المجموع لا يعرف ما هي الحرية، لأنه "مجموع"! حرية الإنسان نتاج استبصارٍ طويل واستنارة
مستمرّة وليست منهاجاً يُعلَّم، لأن الحرية هي حل لمشكلة الفرد مع ذاته قبل أن
تكون مع غيره. وبذلك تكون الحريّة عملية اكتسابية مستمرّة لكلّ فردٍ على حدة.
علينا أن نعي أنّ الديمقراطية وحريّة الإنسان (التعبيرية- الحياتية-
الاعتقادية...إلخ) ليستا شيئين مترابطين. فالأولى نظام حكم، والثانية أزمة إنسانية وجودية ترتبط بكلّ فردٍ يعيش في
أيّ تجمُّعٍ بشريّ.
البديهية
التي يتعامل بها العامّة اليوم مع مفهوم الديمقراطية هي أزمة حقيقية، فأيّ مفهوم
يتحوّل إلى بديهية غير قابلةٍ للنقاش والتفكير يتحوّل إلى أزمة وربما إلى كارثة مع
مرور الوقت. وكون الديمقراطية هي السائدة في معظم دول العالم المتقدِّم لا يعني
أنها مسلَّمة مبدئية، لأن هذه المنظومة في طريقة تشكيل السُّلطة والوصول إليها
تترافق دوماً مع أسلوبٍ معيّنٍ لإدارة الدولة. فنظام إيصال الحاكم إلى منصبه لا
يكفي لحكم مجموعة من البشر (إن كان من الضروري حكمهم)، بل نحتاج إلى ما هو أهم،
وهو مفهوم تنظيم الأفراد بما يشكِّلونه من جماعاتٍ وتجمُّعات.
عناصر السيطرة الأربعة والعِتق منها:
ثورة
الاتصالات التي حوّلت عالم اليوم إلى قريةٍ صغيرة كما يُقال، لعبت أيضاً دوراً
محورياً في زيادة الفروقات بين الشعوب، فكل جماعةٍ أصبح بإمكانها نشر ثقافتها
وفكرها، حيث لم يعد هناك خوفٌ من اختفاء تراثها ووجودها الملموس بفِعل حربٍ مدمّرة
كما كان يحصل في القديم. وهكذا لم تعد الجماعات مضطرّة للتخفّي والمساومة على
معتقداتها وتقاليدها وأساليب حياتها التي أصبحت تناضل بضراوة من أجل ممارستها
والحفاظ عليها. لذا فإن الحكم المركزي في الدولة بدون مراعاة حقوق كل جماعة في
ممارسة حرّيتها الكاملة هو أسلوب متخلِّف وقديم في الحكم، وهو من بقايا الممالك
الأوتوقراطية التي لا تحترم كرامة الإنسان الفرد. والديمقراطية التي تخدم نظام
دولةٍ مركزيّ ليست أقلّ ضرراً من أيّة ديكتاتوريّة. فالمركزية لها أضرار لا تقتصر
على فرض الرغبة السياسية للأغلبية على الأقليات، بل أضرارها تتعدّى ذلك إلى البنية
الاجتماعية والثقافية والتعليمية. فالدولة المركزية تعتمد على 4 عوامل لإخضاع
الفرد. الأوّل هو التنظيم السياسي من دستور وقوانين والتي تعمل على الحفاظ على
شكلٍ معيَّن للحكم قدر الإمكان، حيث أنّ هدفه الرئيسي يتمثَّل في الحفاظ على ذاته
أولاً. والثاني هو مؤسسات تدريسية- مرحلة أولى، تهدف إلى برمجة وتمرين عقول
الأفراد على طاعة المسؤولين عن تنظيم العامل الأول. أما الثالث فهو مؤسسات
تدريسية- مرحلة ثانية، وهي محكومة من العامل الرابع الذي سنأتي على ذكره، وهدفها
برمجة الأفراد للتماهي مع هذا العامل الرابع والأهم الذي هو "السّوق"،
وهو الوجه الآخر المكمّل للنظام القانوني المركزي، حيث أنهما يتبادلان المصالح
والدِّفاع عن بعضهما البعض. وأيّ ضربة توجَّه لأحد هذه العناصر الأربعة بحيث
تغيِّر من أسلوب سيرها سيؤدّي إلى انهيار المنظومة الكاملة للدولة المركزية. فمن
غير المسموح بتاتاً إعادة توجيه المدارس مثلاً نحو إعطاء المفيد والنافع فقط
للأولاد وبطريقة بطيئة وتدريحية، لأن هذا سيؤدي إلى فتح هوّة عميقة بينها وبين
المؤسسات التعليمية الرديفة للسوق (الجامعات)، ومن المحرَّم الاقتراب من هذه
المؤسسات الأخيرة بحيث يصبح هدفها االإنسان الراغب فقط في العلم البحت، أي بدون أن
يكون لها هذا الدور المحوري الذي أصبح يحكم مستقبل حياة الفرد ويقيِّمه ويصنِّفه
في طبقة من طبقات المجتمع المبرمج بدقّة والذي يغتال فرادة الفرد، لأن هذا سيسبِّب
انهيار منظومات صناعية كاملة وتجارية كمالية وترفيهية غير ضرورية للفرد، والتي هي
حالياً تشكِّل أساساً يقوم عليه الاقتصاد في كل أنحاء العالم.
إذاً هذه
العوامل الأربعة شديدة الارتباط ببعضها وهي تخدم أنظمة حُكم مركزية أو شبه مركزية،
سياسياً عن طريق مجالس شيوخ ونوّاب وما إلى هنالك، واقتصادياً عن طريق مصرف مركزي
وما شابه من مؤسسات ومنظّمات تحكم المدن والتجمُّعات وفق شروطٍ صارمة تفرض نوعاً
معيَّناً من الرأسمالية أو الاشتراكية أو أية طريقة تعامل وتداول للمال، أو تحديد
للأولويات والتوجُّهات السياسية والاقتصادية والاجتماعية. فهذه العوامل الأربعة
متضامنة أشد التضامن في أيّ نموذج حكمٍ يعتمد على سَوْق الحشود في اتجّاه معيَّن،
وخصوصاً المركزي منها ذي البعد الأيديولوجي، سواء كان اشتراكياً أو شيوعياً أو
رأسمالياً أو قومياً أو دينياً أو أيٍّ خليطٍ من هذه المفاهيم. ففي كل الأحوال،
السوق هو الحاكم الحقيقي، وإن كان هذا واضحاً في الرأسماليات الصريحة حيث يحكم
نفوذ الشركات العملاقة، وفي الاشتراكيات
حيث تحكم الدولة التي تملك كل شيء كشخصية اعتبارية، فإن هذا يبقى أقل وضوحاً في
الدول التي تقوم على أساس عقائدي يكون فيه الدين أو القومية هو الصوت الظاهر للمال الذي يتكلّم من وراء
السِّتار.
وعلى هذا فكلّ
القوانين والمؤسسات التدريسية والتعليمية والصناعية وغيرها هي خادمٌ لهذا المال
الحاكم، لا بل مصمَّمٌ ومشرَّعٌ ومقولبٌ من أجله. وكلّ المناهج الدراسية النظرية
والعملية لا تهدف إلى بناء إنسانٍ فرد، بل إلى بناء قطعةٍ من الآلة المجتمعية
الكبرى. وزيادةً على ذلك فإن كل الفروع العلمية المنشئة حديثاً أو المحذوفة،
السريعة التطوّر أو المهملة، هي في جزءٍ كبيرٍ منها ليست ناتجة عن حاجة الفرد في
المجتمع، بل عن حاجة الشركات التي تقنع الفرد بحاجاتٍ وهمية لا يحتاجها فعلاً.
خذوا مثلاً تكنولوجيا الهاتف المحمول، فرغم كونها ضرورية إلى حدٍّ ما، إلا أنّ
تطوّراتها الحالية تفوق بكثير ما يحتاجه معظم الناس، فمعظم التقنيات الحديثة بما فيها
الإنترنت على الهاتف المحمول هي حاجة حقيقية لعددٍ قليلٍ جداً من الناس، إلا أن
هذه التكنولوجيا وآلاف غيرها تم تعميمها بغرض تجاريٍّ ماليٍّ بحت، والأسوأ أنه تم
توجيه مئات آلاف الأفراد للتخصُّص في هذا المجال وعشرات غيرها، فقط لخدمة هذه
الآلة الرِّبحية، التي اتخذت مكانها كأولوية في الثقافة الشعبية والمؤسسات العلمية
على حدٍّ سواء، بدل أن تكون مجرَّد كمالية ترفيهية، أو على الأقل ذات طبيعة
اختصاصية مثلها كمثل الفنون والفلسفة التي أصبحت منبوذة إلى جانب غيرها من الفروع
الفِكرية والأدبية.
إن
الانتصار على هذه القوة الحاكمة يتطلّب تفكيك واحدةٍ على الأقل من هذه عوامل
العبودية الأربعة السابقة الذِّكر. والمنطلق يجب أن يكون الصراع على تكوين الإنسان
الحقيقي الحرّ الشغوف بما وهبه الله إيّاه. فالحلقة الأضعف في منظومة الاستعباد هي
المؤسسات التربوية، السَّند الرئيسي لاستعباد الفرد ومن ثم الجماعة. إن حرب
الإنسان ليست لتحقيق الديمقرااطية بل لتحقيق الإنسانية، ولتحقيق الفرد الواعي،
الإنسان المحكوم بشكلٍ ثيوقراطيٍّ (إلهي) مباشر بدون أي وسيطٍ يستعبده ويقوم
بالوصاية عليه مدى الحياة. إن بناء الإنسان الواعي وفق نظرة الـــImago Dei أي على صورة الله الخالق المبدع
الذي يتبع ما يشعر في قلبه بأنه خُلق ليمارسه في هذه الحياة، هو الوسيلة للتفكيك
التدريجي للمنظومة الاستعبادية القائمة على ثنائية القانون والمال. وممارسة هذه
الثيوقراطية الرّومانسية الحرّة تبدأ مع الأفراد والعائلات بالإصرار على خلق ثقافةٍ
موازية للبرنامج الموحَّد في المؤسسات المحكومة من قبل الدساتير والأموال والتي
تخدم بعضها بعضاً. هذه الثقافة هي عملٌ فردي خلّاق نابعٌ من كلّ فردٍ ومن كل
عائلةٍ تؤمن بأنّ الله خلق الإنسان حرّاً ليوجد حرّاً وليبقى كذلك.
ما يجب
أن نسعى إليه هو حرّيتنا من رغبتنا في الحصول على صكّ شرعيّ أو حكوميّ ما لكلّ ما
نريد أن نكون عليه، فيجب أن نتخلَّص من أن نكون مستوعَبات ثقافية يجري التحكُّم به
عن قربٍ أو بُعد. لا قوانين يضعها البشر تحكم ما نفكِّر به وما نتعلّمه وما نختاره
لأنفسنا. فكما انتصرنا على برمجة عقولنا التي مورست علينا سنيناً طويلة في مؤسسات
البرمجة التعليمية، هكذا نستطيع أن نتعاون معاً كأفراد لنخلق فيما بيننا
ثيوقراطيتنا الخاصّة، التعاونية، المحبّة، المنفتحة، فإرادات الأفراد (وليس
الحشود) هي التي تصنع و"توجِد". فهذه الثيوقراطية القائمة على أفرادٍ
مجتمعين طواعيةً هي الكفيل بجعل قيود الإمبرياليات الداخلية المركزية مجرَّدةً من
فاعليّتها وتأثيرها على هؤلاء الأفراد.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق