الجمعة، 20 أبريل 2012

السوقوقراطية

بقلم فادي أبو ديب

عندما نريد أن نحكم على تجربةً سياسية تاريخية، نستطيع أن نتقدّم نحوها بطريقتين:

- الطريقة الأولى هي طريقة الباحثين المادّيين ، وتقوم على فحص التفاصيل وسير الأحداث، ودراسة المتغيِّرات السياسية والثقافية والاجتماعية والثقافية، صعوداً وهبوطاً، وإيجاد الأسباب لكلي الحالتين، وتوقُّع النتائج المستقبلية بناءً على الأرقام والإحصائيات. وفي هذه الطريقة قد يكون الحُكم مستنداً إلى نظرة براغماتيةٍ (نفعية) حيث لا يوجد مقاييس صارمة للحكم، أي ربما لا نأخذ بعين الاعتبار القِيَم والفضائل الشخصية أو الظواهر الأخلاقية الاجتماعية. ورغم أنّه لا يوجد شيء يمنع من جمع المقاييس الأخلاقية مع الأسلوب الاختصاصي في الحكم على تجربة ما، إلا أنّ ما يحصل غالباً هو الغرق في التفاصيل والمشاكل الفرعية التي لا يمكن حصرها، وبالتالي يصبح الحكم على صلاح التجربة أو عدمه يقوم بشكل أساسي على اعتبارات مادّية واقتصادية بلغة الأرقام، ولا يعود للنواحي المعنوية والأخلاقية أيّ اعتبار.

- أما الطريقة الثانية فهي ما يمكن أن نطلق عليه اسم "طريقة الحكماء"، وهي تقوم على النظر إلى النتيجة النهائية لتضافر كل العوامل والسيرورات التاريخية، أيّ أنّ ننظر إلى الحالة قبل وبعد تطبيق التجربة من دون الغرق في التفاصيل الرّقمية الدقيقة، وهذا يكون بحسب المقياس الذي نعتقد بأنّه الحَكَم الحقيقي، والذي هنا يقوم على النظر إلى مدى تحقُّق اكبر قدر ممكن من حرّيّة وخير الأفراد وانتشار قِيَم الفضيلة بينهم مما سيؤدّي حتماً إلى فعالية بشرية جماعية صالحة.

 وهذه الطريقة لا تأخذ بعين الاعتبار موضوع نسبية الصّلاح والأخلاق، لأن هاتين القيمتين لا تتوقّفان أصلاً على الأشكال والمظاهر الخارجية التي قد تتغيّر بتغيّر الزمان والمكان. وعلى هذا فإنّ مقياس الفضيلة لا يحدِّد تفاصيل السلوكيات، بطريقة ناموسية دقيقة، لأن الفضيلة تقوم اوّلاً على الاعتقاد بوجود المبدأ الأخلاقي، والسعي نحوه تفعيله وتحقيقه في الحياة الشخصية لكل فرد على حِدى بشكل طوعيٍّ ناجم عن قناعة شخصية وجودية، وليس عن طريق قوانين خارجية تُفرَض من قبل هيئة حاكمة مهما كانت. وهكذا فإنّ خروج امرأة بملابس معيّنة في الشارع، أو انتشار نوعٍ معيِّنٍ من الأفكار الفلسفية أو الرّوحية، أو اتّباع المجتمع لنظامٍ اقتصاديٍّ معيَّن، لا يتضارب من حيث المبدأ مع وجود الفضيلة، لأنّ هذه الفضيلة ليست قالباً لا يمكن تغييره في الأمور الحياتية اليومية. ولكن يحصل هذا التضارب عندما تكون هذه الظواهر البشرية كاللباس أو الفكرة الفلسفية أو الروحية أو النظام الاقتصادي قائمة في وجودها على شعار "لا وجود للفضيلة"، وعلى نشر العبودية للثقافة الواحدة كثقافة الاستهلاك مثلاً.

 فثقافة الاستهلاك هذه هي في الحقيقة تستعبد كلّ الناس لمصلحة أشخاص معدودين، وهي لا يمكن أن توجد  في مجتمعٍ يتمتّع فيه كلّ فرد بالحريّة الحقيقية، فهذه الظاهرة تقوم بشكلٍ حتميّ على المؤسساتية، والمؤسساتية لا يمكن ان تستمرّ بدون أن تحصّن نفسها بقوانين تكفل لها ضمان إجبار الناس على التعامل معها من خلال توليد الحاجة لديهم لهذا التعامل. فمؤسسة لصناعة الأجهزة الإلكترونية- على سبيل المثال- لا يمكن أن تستمرّ بدون مؤسسات تعليمية ترفدها بالمختصّين والعمّال، وهذه المؤسسات تحتاج لهذه الأجهزة الإلكترونية التي ستزوّدها بها هذه المؤسسات نفسها. والمؤسسات التعليمية الآنفة الذِّكر لا يمكن أن تقوم بدون وجود مؤسسات تنشئة للأولاد، وعلى هذا يجب أن يكون التعليم إلزامياً. كما يجب أنّ تكون رواتب هذه المؤسّسات مغرية في حال وجود منافسة، وبالتالي يجب أن تبيع هذه الشركات منتجاتها بسعرٍ مرتفع، والناس مجبَرة على الشِّراء لأنّ اولادها لا يمكن أن يتخرّجوا من المؤسسات التعليمية بدون أن يكونوا على معرفة دقيقة بالتعامل مع هذه الأجهزة. والناس مجبرون على إدخال اولادهم في هذه المؤسَّسات من الأساس، لأنّ مسار المجتمع كلّه تحوّل، بحيث أصبحت كلّ المهن تصبّ في خدمة هذه المؤسّسات.

وهكذا، وبالتدريج، أصبح المجتمع رهينة بين المؤسَّسات التعليمية وشركات صناعة الجهزة الإلكترونية وما يشبهها وما يعتمد عليها، وفق حلقة مفرَغة، يعتمد بعضها على بعض، وتصبّ في النهاية في جيوب عددٍ محدودٍ من الأشخاص، يستعملون باقي أفراد المجتمع، إما كعمّال أو كمدرّبين لهؤلاء العمّال. وتدريجياً أيضاً يتمّ القضاء  على المهن الحرّة، مما ينفي حرّيّة الفرد، التي من أساسياتها حرية اختيار العمل، نفياً قاطعاً.

في هكذا مجتمعٍ استهلاكي لا يوجد للفضيلة مكان مهما تطوّرت القوانين وتحضّرت البنى التحتيّة، لأنّ كلّّ ما يجري يصبّ في النهاية في مصلحة آلة الإنتاج العمياء والمتوحِّشة، التي لا تفكِّر إلّا في نسب النموّ والرّبح والتوسّع واكتساب النفوذ، وتحويل المجتمع أكثر فأكثر إلى وقودٍ لمحرّكات إنتاجها التي لا تشبع.

وفق ما سبق يمكننا أن نسأل؛ ما معنى الديمقراطية التي يتحدّث بها العالم ليل نهار، وتوقَد من أجلها الحروب وتقوم الثورات؟ من حيث المعنى اللغوي والنظري فهي "حكم الشعب نفسه بنفسه" ولكن هذه العبارة بحدّ ذاتها غامضة، وقد تكون خادعة؛ فهل الشعب كيان ذاتي يملك إرادة لكي "يمارس الحكم"، هل هو كيان يملك إرادة الفعل كالإنسان الفرد الذي يملك عقلاً وعواطفاً وما إلى ذلك، أم هو نسيج متنوّعٌ معقَّد له شخصية اعتبارية اصطلاحية؟ ثم، وهو السؤال الأهم، هل أيّ صيغة من الصِّيَغ الديمقراطية الحالية تكفل حقّاً حكم الشعب نفسه بنفسه (إذا سلّمنا بهذه الإمكانية أصلاً)، وخصوصاً القائمة على حكمٍ مركزي على اختلاف أشكاله؟ أليس مصطلح حكم الشعب نفسه بنفسه يدلّ على شيءٍ مختلفٍ تماماً عما هو موجود حالياً في مختلف أنحاء العالم؟

الديمقراطية، من حيث المبدأ القائم على معناها اللغوي، يجب أن تكون أقرب لنوعٍ من المجتمعات اللاسلطوية، التي تعتمد على قطاعات صغيرة محكومة محلّياً، مع وجود أو عدم وجود سلطة عليا تمارس فقط حدّاً أدنى من القوننة، ويقوم عملها فقط على حفظ الأمن. أمّا أن يكون هناك دولة عالية التنظيم بوجود قوانين صارمة، وتقوم على أساس أيديولوجي ثابت، ديني أو قومي، حيث تنطبق هذه القواعد والقوانين على عشرات ملايين السكّان عبر عدّة أجيال، فهذا لا يمكن أن يكون حكماً للشعب لنفسه بنفسه.

 هل يمكن أن نعتبر بعد عقودٍ من بدء انتشار الأنظمة الديمقراطية وما يتبعها من ليبرالية اقتصادية، أنّنا صرنا أكثر حرّيةً؟ وهل يمكن أن نصرِّح بثقة  وبالفم الملآن أنّ عصر العبودية أو الإقطاع قد انتهيا؟ هل النظام الذي يقوم على وجود مرشَّحين يروِّجون لأنفسهم عبر ماكينات إعلامية ومالية ضخمة هو نظام يضمن حرّيّة كلّ فرد في حكم نفسه، ويؤمِّن تساوي الفرص؟ وكيف لمجتمعٍ يحكمه المال أن يكون في ذات الوقت محكوماً من الشعب نفسه؟!

وفق مقياس "طريقة الحكماء"، هل يمكن أن نقول أنّ الديمقراطية أدّت إلى كوكبٍ أكثر صلاحاً، أكثر حرّيّةً، أقلّ مرضاً، اقلّ جوعاً، أقلّ ظلماً، أكثر احتراماً للفرد بكلّ معنى الكلمة بعيداً عن خداع القوانين وتمويهاتها، وحتى في الدُّوَل الأكثر تقدُّماً؟

الديمقراطية الحقيقية هي حلمٌ إنسانيّ ورديٌّ وبعيد، وما هو موجود حالياً ليس سوى ظلالٍ مشوَّهة للحريّة. فالفرق اليوم بين الديكتاتورية والديمقراطية هو أنّ الحاكم في الأولى لا يترك لنا حرّيّة الاختيار، أما في الحالة الثانية فيتركّ لنا هذه حرّية بعد أن يزيل كلّ الخِيارات الأخرى.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق